بين الغروب والشروق، مساحة حابلة بالنور والنوار، وبفاكهة الصبار، وتلك حكاية خطّتها أيدي أبطال من رجالات ونساء قبائل أيت باعمران…
في الغروب، حملت كتاب “ديوان نداء الأرض” للشاعر الفقيد محمد الوديع الآسفي، الذي أهداني إياه، مؤخرا، مشكورا، ابنه الصديق العزيز الشاعر والكاتب صلاح الوديع، واتجهت إلى حي “الكاطع”، وبالضبط “البلاندية” المطلة على بحر مدينتي الجميلة المناضلة الشامخة سيدي إفني…
في موعد غروب الشمس، وقفت خشوعا أمام البحر، كان صوت الأمواج الهائجة المتدفقة صوب شاطئ مترامي الأطراف يُشعرك وكأنك في حضرة الصفاء تصلي للبهاء، لكأن البحر والشمس، في الأفق، يتهامسان، وقوارب صيد صغيرة تتراءى من بعيد، فتغيب في الحلم، وتغوص في حب هذا المكان، بأرضه وبحره وسمائه وشمسه وقمره وكل شيء فيه…
إنه حلم حتى الثمالة، حتى الفرح، يستبد بك والشروق يأتيك خفيفا عاشقا، يحل الصباح متكاسلا فينشر ضياءه الباهت على فلاة عارية، لا يملأها غير التراب والحجارة بعد أن أحرقت الشمس كل شيء نبت فوقها.. وما أن تغادر مدينة سيدي إفني حتى تجد السيارة رباعية الدفع نفسها تهتز فجأة نفرة مثل سلحفاة مذعورة وهي تسلك طريقا تآكل إسفلتها حتى لتكاد تبدو، رغم كيلومتراتها الأربعين، بلا نهاية… ثم عند نهاية الكيلومتر الأخير، ومع مطلع علو “تهرموشت”، تلوح أخيرا تلك الدار الشامخة التي ترعرعت بين جدرانها الصامدة لأكثر من سبعة عقود والمرمّمة مؤخرا تكريما لتلك الذاكرة الجميلة المجسدة في تلك الروح لأب عظيم، رحمه الله، كان وراء تشييدها.
كل شيء يحمل على الاعتقاد أن منطقة “تدينت”، التابعة لجماعة صبويا، في إقليم سيدي إفني، تشبه كل جماعات المغرب..
مظاهر الإهمال النافرة من كل ما يعلو الأرض..
وصياح ديك من بعيد يكسّر الصمت المطلق وفي الآفاق الجو النقي…
الفصل بداية صيف بطعم الربيع، أو هو ربيع يريد أن يقفز قفزا نحو صيف مستعجل، ما دام الربيع يرفض أن يغادر… يبدو الزمن، هنا، متوقفا تماما عند قرن آخر مضى لا يريد التململ، لا شيء يتحرّك في غشي الصباح الباكر، أو هكذا يخيّل إليك وأنت تسير منقادا في الاتجاه، الذي تأخذك فيه الطريق، بيد أن الداخل إلى جماعة تدينت عبر هذا المسلك الذي يقود إليه لا يملك أن يمنع عقله من التفكير أنه مُقبلٌ على مكان لا ككل الأمكنة الأخرى،
فالمكان هنا خصوصيته الأبرز أنه يسكن مخيلتي، باعتباره مسقط رأسي، بكل شيء فيه من حجر وتربة وفاكهة صبار، التي كانت قبل سنتين منتشرة في كل مكان…
لكن الآن، ويا أسفاه، الحشرة القرمزية، فعلت فعلتها وانتصرت في تطويق منطقة بكاملها كانت في أيام خلت قد استعصى غزوها واستعمارها بأعثى قوة عسكرية!
وهنا، تُطرح في الواجهة فاكهة الصبار، وما أدراك ما فاكهة الصبار، تلك الفاكهة الفريدة، التي أسالت لعاب كبار أغنياء المغرب لما لها من أهمية.. فعلاوة على منافعها، وهي كثيرة ومتعددة، وعلى دورها الريادي والأساسي في تنمية المنطقة اقتصاديا، تظل فاكهة الصبار بالنسبة لي فاكهة ذات رمزية خاصة، ولها مكانة عالية بمخيلتي ووجداني، وتذكّرني بأيام طفولة جميلة قضيتها فوق هذه الأرض الطيبة، وكل ما فوقها وتحتها يرمز إلى شهامة نساء ورجال تربطني بهم صلة القرابة والدم، صنعوا تاريخا مشرفا شاهدا على بطولات أجدادهم وآبائهم في مواجهة الاعتداءات عليهم وعلى أراضيهم، ولسان حال أحفادهم يقول:
إننا هنا باقون، هنا صامدون ومستمرون،
إذا عطشنا نعصر فاكهة الصبار وناكل فروعها (الألواح أو المجاديف)،
إن جاعت حرائرنا لا تكلن بأثدائهن وإن جعنا لا نرحل أبدا،
هنا لنا ماض وحاضر ومستقبل…
أولئك الأبطال، الذين ضحوا، بالغالي والنفيس، من أجل هذه الأرض العزيزة… ها هم اليوم معنا، ها رفاتهم ترقد في سلام بمقبرة مسجد السماهرة، التي حُصنت بسور مؤخرا حفظا للذاكرة… رحمهم الله جميعا وأسكنهم فسيح جنانه…
“مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا”
بقلم عبد الكريم غيلان
كاتب رأي
لا يسمح بنشر التعليقات المسيئة أو التي تحمل كلمات نابية أو التي تمس بالدين والوطن والحرمات ..