بقلم: مصطفى إغلاسن.
قال الله عز وجل في سورة الإسراء:
۞ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.
صدق الله العظيم.
في البداية، أسأل الله عز وجل أن يحفظ أمهاتنا وأمهاتكم، وأن يمدهن بموفور الصحة والعافية وطول العمر.
إن من أصعب الامتحانات في هذه الحياة، أن يبتلى الإنسان بمرض أحب وأحن وأقرب الناس إلى قلبه، ألا وهي الأم، تلك التي مهما كتبنا عنها أو نطقنا، لن تكفينا أوراق الدنيا ولا مداد الأقلام لنعبر عن حبنا لها.
الأم هي ذاك الكيان الطاهر، وذاك الحضن الدافئ الذي يحمينا من برد الحياة وقسوتها، وهي السد المنيع أمام تقلبات الدهر ومنعطفاته.
هي مدرسة في التربية، وطبيبة في المواساة، وموجه حكيم، ومدرب مخضرم يعلمنا كيف نراوغ صعوبات الحياة وننهض بعد كل سقوط.
بدعواتها الصادقة، تفتح أمامنا الأبواب المغلقة، وبابتسامتها يزول التعب وتلين الصعاب.
لكن حينما تمرض هذه المدرسة، وتوجع هذه الجوهرة، يعتصر القلب ألما، وتدمع العين، ويرتجف الفؤاد… ليس ضعفا ولا خوفا، بل لأنك تعجز أن تراها تتألم.
والأعجب أنها رغم وجعها، تخفي ألمها بابتسامة صافية، وتتكلم بصمتها أكثر مما تقول كلماتها، تنكر وجعها وتدعي القوة، بينما يصرخ الألم في عينيها… وهنا تتساءل: من أين تستمد هذه الإنسانة كل هذا الصبر وهذه القدرة العجيبة على الاحتمال؟
أصعب ما يمكن أن يعيشه القلب، حين تخوض هذه الأم معركتين في آن واحد: معركة المرض، ومعركة البعد عن الزوج والأبناء والأحفاد.
ومع ذلك، تظل شامخة، قوية، راضية بقضاء الله، ثابتة على الإيمان واليقين.
حين نقول إن الأم مدرسة، فنحن لا نبالغ، فهي موسوعة في الحب والحنان والأخلاق والتواضع.
وأجمل اللحظات التي تخفف عنها وعنا ألم المرض، حين تزورها وجوه قريبة من القلب، أو تأتيها مكالمة صادقة تزرع البسمة في وجهها، فتشعر أن الدنيا ما زالت بخير، وأن في الناس من لا ينسى ولا يتبدل مع الأيام.
تلك الزيارات والمكالمات البسيطة، تحمل في طياتها معنى كبيرا للوفاء، وتؤكد أن الصداقة أو القرابة ما زالت تنبض بالصدق والأصالة.
لقد علمتنا الحياة أن المرض غربال للقلوب والعلاقات، يظهر المعادن الأصيلة ويميزها عن الزائفة، يكشف الصادق من المزيف، والقريب من المتقنع بالقرب.
في لحظات الوجع تسقط الأقنعة، وينجلي الغبار، ونتعرف على الوجوه الحقيقية من حولنا.
حينها ندرك أن بعض العلاقات لم تكن سوى مسرحية قصيرة الأجل، أبطالها لا يتقنون سوى التمثيل في زمن العافية.
ومع كل ذلك، نحمد الله على ما علمنا الألم من دروس وعبر.
فالمرض رغم قسوته، هبة إلهية خفية، في ظاهرها وجع، وفي باطنها تطهير للنفس وتمحيص للقلوب، وفرز بين الصادق والمصلحي.
نحمد الله على الأقدار التي تكشفت الوجوه على حقيقتها، وأسقطت الأقنعة عن المتلونين.
هي دروس قاسية، لكنها أصدق من ألف تجربة في الرخاء.
فما بعد المرض إلا الشفاء، وما بعد المشقة إلا الراحة، وما بعد العسر إلا يسرا.
فالحمد لله أولا وآخرا، ظاهرا وباطنا، على كل حال.