بقلم: محمد الشيخ بلا
المغرب بلد لا يُفهم بمنطق الأبيض والأسود، ولا يقرأ من خلال الشعارات الجاهزة، بل هو بلد المفارقات الذكية، حيث تتجاور فيه التناقضات لا بوصفها خللا، بل باعتبارها جزءا من براغماتية دولة تعرف ماذا تريد، ومتى تتحرك، وكيف تدير اختلافاتها دون أن تنفجر من الداخل.
مناسبة هذا الكلام، هو تدوينة للصديق محمد عوام، تحت عنوان “المخزن يستطيع أن يرسل شيوعي للحج، وإسلامي للتوقيع على التطبيع، ويمرر الحكم الذاتي والجزائر عضو في مجلس الأمن، ويسجل القفطان فى اليونيسكو والجزائر عضو في مكتبها التنفيدي”،
وقد ذكرني مضمون التدوينة بنقاش سابق دار بيني وبين عدد من الأصدقاء والفضلاء حول قوة الدولة ومؤسساتها الضاربة في أعماق السياسة والتاريخ، وحول أهمية الصبر الاستراتيجي في تحقيق مكاسب بعيدة المدى في السياسة والاقتصاد وغيرها.
صحيح.. المغرب يمكن أن يرسل شيوعيا إلى الحج، تماما كما حدث مع نبيل بنعبد الله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، لا لأن الدولة تتدخل في قناعاته، بل لأنها لا تصادر حق الفرد في التحول، ولا تحاكم الناس على أفكارهم بقدر ما تحاسبهم على أفعالهم.. هنا، لا تدار الدولة بمنطق الإقصاء الإيديولوجي، بل بمنطق الاحتواء الهادئ، حيث الدين شأن روحي، والسياسة شأن تدبيري، وما بينهما مساحة واسعة للتعايش.
وفي المغرب أيضا، يمكن لإسلامي أن يوقع على اتفاق التطبيع، تماما كما هو الشان بالنسبة لسعد الدين العثماني، رئيس الحكومة الأسبق والأمين العام لحزب العدالة والتنمية، لا خيانة لقضية، ولا نكاية في عقيدة، بل انسجاما مع منطق الدولة واستمرارية مؤسساتها، فالسياسة الخارجية ليست مجالا للوعظ والإرشاد، بل حقلا لمصالح معقدة، تدار فيه الملفات بميزان الربح والخسارة، لا بميزان الحناجر المرتفعة، ومن يضع توقيعه يضعه باسم دولة لها تاريخ، ورؤية، وحسابات دقيقة.
المفارقة الأكبر أن المغرب، في هدوء ودون ضجيج، يمرر مشروع الحكم الذاتي كحل واقعي لقضية الصحراء، فيكسب دعما دوليا متزايدا، ويحول المقترح من فكرة إلى مرجعية أممية جادة، وفي المقابل، نجد الجزائر، رغم عضويتها في مجلس الأمن، عاجزة عن تحويل هذا الموقع إلى اختراق دبلوماسي حاسم، لأن الخطاب شيء، وبناء الثقة الدولية شيء آخر.
وعلى المستوى الثقافي، يسجل المغرب القفطان في لائحة التراث الإنساني باليونيسكو، مثبتا أن الهوية لا تحمى بالصراخ، بل بالتوثيق والعمل والمؤسسات، بينما تظل الجزائر، رغم عضويتها في المكتب التنفيذي لليونيسكو، أسيرة ردود الفعل، أكثر مما هي صانعة للمبادرات.
هنا تتجلى الفكرة بوضوح.. ليست المواقع هي التي تصنع النفوذ، بل طريقة الاشتغال داخلها، وليس عدد الشعارات هو ما يصنع الشرعية، بل القدرة على تحويل التاريخ والثقافة والسياسة إلى قوة ناعمة مؤثرة.
المغرب لا يدعي الكمال، لكنه يشتغل بعقل بارد، ويراكم بهدوء، ويعرف أن الدول لا تبنى بالانفعال، بل بالصبر الاستراتيجي، لذلك، قد يبدو للبعض بلد التناقضات، لكنه في العمق بلد التوازنات الدقيقة، وشتان بين التناقض والعجز.
وهذا أرقى تعبير على المبدأ الذي ينص على أن مصلحة الدولة واستقرارها واستمراريتها، أسمى من أي شيء آخر.
فالدولة لا تؤله الإيديولوجيات، وقادرة في أي وقت على تغيير الأدوات دون أن تغير البوصلة.. لهذا استطاع المغرب أن يحافظ على تماسكه الداخلي في محيط إقليمي مضطرب، وأن يدير اختلافاته السياسية والدينية دون أن تتحول إلى صدامات وجودية.
ثم إن ما يميز التجربة المغربية هو هذا النفس الطويل في تدبير الزمن، فالمغرب لا يستعجل القطاف، ولا يربط مصيره بدورة انتخابية أو ظرف دولي عابر، بل يراكم الإنجازات خطوة خطوة.. في الدبلوماسية، في الثقافة، في الاقتصاد، وفي بناء الصورة. لذلك، حين تتبدل الموازين الدولية، يجد نفسه حاضرا بخيارات جاهزة، لا بردود أفعال مرتبكة، وهكذا، لا يبدو المغرب في النهاية بلد المفارقات فقط، بل بلد القدرة على تحويل المفارقة إلى قوة، والاختلاف إلى رصيد، والهدوء إلى نفوذ.
شاهد أيضا
تعليقات الزوار


