فيلم لالة تاوعلات: رؤية في قيم السوسيين بقلم: وديع اكونين

ما الداعي بعد أكثر من 230 سنة لانتاج فيلم تاريخي/ديني باللغة الأمازيغية، حول رمز روحي بصيغة التأنيث: لالّة تاوعْلاَّتْ ؟؟
أليس في الكم الكبير من الانتاجات الفنية، ما يكفي ليضطلع الفيلم الأمازيغي بدوره القيمي إن كانت له رسالة قيمية ؟ بل لِمَ الحفر في تاريخ المنطقة السوسية وفي بطون كتب أهلها لاستخراج ترجمة تصلح أن توضع في قالب فني يقرّب قيم السوسيين التي لا تتبدل، إلى جيلِ الصورة، مع أنه بالامكان وضع سيناريوهات تستهوي من لا ذوق له، وتحتفي بقيم التَّفرج والتكشُّف والتجَسّس السائدة اليوم في عالم انتاج الافلام ؟ أليْس من الجِدي وضع سؤال كالذي يلهج به حالُ المشاهد فور انتهائه من فيلم لالّة تاوعلات: أين نحن من هذه الشخصية الأسطورية؟
على أن المُتفرّج الأمازيغي -وهو بالمناسبة غيرُ المشاهد الأمازيغي- قد أَلِفَ من الأفلام التي تقدم إليه قيما تقصي سندها الديني والروحي في أحسن الأحوال، أو تخاصمه في أسوء الأحوال، حتى صارت القيم الروحية تنزل عنده منزلة الأخبار التي لا يقبلها عقل سوي، بل بمنزلة الاساطير التي لا تَقدُّم للمجتمع إلا بمحاربتها. أفَيُسْتَغْرَبُ بعد هذا أن تصدر الردود حول فيلم لالّة تاوعلات باعتباره مجرد أخبار تاريخية في قالب فني، أو أساطير تستند إلى رواية شفوية لا تمتّ إلى معايير الفيلم الأمازيغي المجرد فضلا عن الهادف بصلة. هذا ما أفصح عنه أوأضمره بعض نقاد الفيلم المذكور. على أن بعض المؤسسات السينمائية الغربية مثلا والتي تشتغل على قطاع الخيال العلمي في إنتاج أفلامها استطاعت أن تزيد من فاعلية الابداع العلمي نفسه في عقول شبابها وسبب ذلك كون هذا الابداع العلمي أحد أهم قيم مجتمعاتها مما يوجب خدمته بانتاج أفلام ترسخ وجوده على الواقع. فقارن إذن بين إنتاجات فنية تهدم قيم المجتمع الحقَّة، وبين أخرى تبني للمجتمع قيمه. ثم قارن بعد ذلك بين عقل يبخس فيلم لالة تاوعلات قيمته الأخلاقية وبين عقل يرى فيه صورة لقيم الأمازيغي بمستندها الديني.
لسنا هنا لتفصيل خلفيات النقد الصادرة تجاه الفيلم ومدى انحيازها أو حيادها، بقدر ما نرمي إلى إبداء وجهتنا تجاه هذا العمل الفني من منظور قيمي وذلك عبر أربعة مسائل.
1- ترجم للسيدة السوسية فاطمة بنت محمد الهلالية كل من الحضيكي صاحب الطبقات، مصرحا بموجبات النقل الموثوق الخاضع لقواعد التثبت، بما يؤثر عنها من كرامات وخوارق، ذُكر بعضها في الفيلم. وترجم لها المؤرخ الأديب المختار السوسي في المعسول، وختم العلامة محمد الايبوركي الهشتوكي تلميذ الحضيكي فهرسته بذكر مناقبها قائلا إنها أخذت عن الشيخ الكبير أبي العباس ابن ناصر، وأن الشيخ المعطي بن صالح يرسل من أبي الجعد إلى سوس يطلب دعاءها، ذكر هذا أيضا العلامة النحرير عبد الحي الكتاني في الجزء الثاني من فهرس الفهارس. وذكر مناقبها أيضا صاحب “إتحاف أهل البدو والقرى بسلالة زينب الكبرى”، ومن المعاصرين الفقيد العلامة الحسن العبادي في كتاب “الصالحات المتبرك بهن في سوس”. فالمترجمون مجمعون على وقوع الكرامات منها، وعلى إمامتها في الأخلاق والنسك حتى سادت أهل زمانها، فالرواية الشفوية إذن لم تستأثر لوحدها بمناقب السيدة السوسية كما يروج له البعض. ومن يتأمل تَثَبُّت عَصْرِيّها الإمام الحضيكي وغيره في نقل أخبارها وكراماتها يتيَقَّنُ هذا. .
2- ذكرت التراجم ما كان من السيدة فاطمة من علاقة روحية شديدة مع سلطان المغرب مجسدة بذلك قيم البيعة والوطنية وهو ما ترجمه الفيلم في مسألتين هما الالحاح في الدعاء للسلطان، والتأثر بوفاته .
3- ترجم الفيلم في معظم مشاهده العلاقة الاجتماعية للسيدة فاطمة شديدة التأثير القيمي على مستويات عدة نذكر منها علاقتهاالأسرية (الزوج والضرة والخادمة)، ثم علاقتها الدينية (فقيه المسجد سيدي الطاهر وطلبته فقراء، الطريقة الناصرية، العلماء من أقطار أخرى)، ثم علاقتها بالسلطة المحلية (أمغار وأعوانه)، وأيضا علاقتها بالجيران والاطفال، وعلاقتها مع الحيوان في الرعي وإطعام القط.. لذلك أرى أن القيم المجسدة عبر هذه العلاقات قاربت لحد كبير ما هو مدون في ترجمة السيدة فاطمة عند كل مترجميها، وبهذا يكون الفيلم قد نجح في تنزيل القيم الدينية التي جسدتها الشخصية وتبليغ رسالة اخلاقية هادفة. والاشادة هنا ستكون للعلاقة مع الطفلة (تاكَرامت الصغيرة) وكيف تجسد خلالها دور الصوفي في تلقين ملكات الاقتداء القويم لدى الطفل واستشراف التشبه بالقدوَة . وهو ما ينقص كثيرا من الأعمال الفنية الامازيغية
4- جسدت العلاقات التفاعلية مع شخصية لالة فاطمة تاوعلات تقابل التأييد والمعارضة، أو بالمصطلح العلمي الاعتقاد مقابل الانتقاد، فانقسم المجتمع من حولها إلى فريق ينظر إليها نظرة التعظيم والاجلال والتوقير وينضوي في هذا الفريق السواد الأعظم من المجتمع إضافة إلى رموز العلم والصلاح البعيدة جغرافيا كالامام الحضيكي والامام سيدي المعطي بن صالح وغيرهما، وفريق ثان ينظر إليها نظرة التحقير ويحاول التشكيك في المشروعية القيمية والأخلاقية التي تدعو إليها، ويضم هذا الفريق بعض أعوان السلطة ومواليهم، إضافة لزوجها وضرتها اللذين كانت لهم القابلية للانضمام إلى الفريق الاول وهو ما تجسد فعلا في آخر مجريات الفيلم. والقيم المبثوثة في ثنايا هذا التفاعل المجتمعي لا تخرج عما هو مقرر في تراجم الصوفية والصلحاء من وجود سنة الانكار من قبل المخالفين.
بعد هذه الإطلالة السريعة أقول:
إن التراث السوسي، وبصفة خاصة ما يتعلق بتراجم الرجال والنساء، يحتاج إلى بروز كبير على المستوى الفني، ولابد للمشتغلين في هذه القطاعات استحضار الأبعاد القيمية للمنتوج الفني وتثويره خدمة للتنشئة والتربية، وبالتالي لا مفر من المصالحة مع التراث من طرف من يخاصمونه تجزيئا وإقصاء.
فنشد على يد المشرفين على هذا العمل الفني، الذي نعده بحق من روائع سوس. وإن ثمة أسماء كثيرة، حَمّالةُ قِيم كونية عجت بها الأرض العالمة، تنتظر منا استدعاءها إلى ساحة الفن الهادف. ألا فلنستدعها ولندَعها تقُلْ كلمتها، ولنُصْغِ لها كما أصغينا.

شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد