
جلس “مُوحْ” على التراب مسندا ظهره إلى جذع دوحة البلوط الضخم، أراح قدميه من “إيبوركسن”، وهو زوج حذاء محلي يصنعه حرفيون مختصون، نعله من دواليب السيارات أو الشاحنات، وبقيته من أشرطة جلدية تحيط بالقدم تفصل بينها فراغات تسمح بدخول الهواء.
مد رجله اليمنى فكشف عن قدم خشنة باطنها كأنه صخرة مليئة بالشقوق تختصر حجم ما ينوء به هذا الجسد القوي من مسؤوليات وما يرزح تحته من هموم، وثنى رجله اليسرى فأسفرت عن رقعة زرقاء كبيرة على ركبة سرواله الأسود الداكن، فالسكان هنا قلما يلبسون الجديد من الثياب، وحتى لو لبسوها فهي لا تحتاج إلا أياما قليلة لتبلى بفعل قساوة الظروف.
حتى الملابس تعاني في هذه الجبال، لا يشفع لها اتساخ أو تقادم أو تمزق أو ثقب أو فتق كي تركن وتستريح، بل لا بد أن تُخاط وتُرقّع لتستمر في أداء مهمتها إلى أن تتحول إلى أسمال، وحتى هذه الأسمال لا تحلم بالتقاعد، فلا بد من إعادة تدويرها والاستفادة منها في صناعة أشياء أخرى ضرورية في هذه القرى، مثل السجاد والحبال أو برادع الدواب أو تستخدم لتبريد مياه الشرب، والأكثر شقاء منها تنتهي بها الأقدار خرقة حقيرة تُحمَل بها الأواني الساخنة مثل الغلاّي والمرجل والفرّاح (إناء طيني يطهى عليه الخبز) والأقداح والقدور المليئة بالسخام (السواد الناتج عن كثرة وضعها على النار).
ولا تقل معاناة الأحذية -وخصوصا البلاستيكية منها وهي الغالبة- عما تعيشه الألبسة، فهي بالإضافة إلى أنها تحمل أجساد الناس هنا في أوعر الطرقات وتحمي أقدامهم من أكثر الصخور خشونة، ومن أشواك الأرض وحرها وبردها، فإنها إذا تمزقت تخضع لعمليات جراحية تعيد كيها ولصقها وترقيعها بمنجل أو خنجر يوضع في الجمر حتى يحمر، وبعضها يتحول إلى قطعة مساعدة في إحدى أدوات الحرث، أو يصبح قاعدة لمغزل الصوف، والتعيسة منها قد ينتهي بها الأمر إلى أن تنضغط وتحشر بين فأس ويدها الخشبية لتمنع انزلاقها، وربما انتهت مدقوقة بالمسامير في باب لتقوم بدور “البيزاكرات”، وهي مفاصله التي يفتح ويغلق بفضلها.
وضع موح الكؤوس الزجاجية وبراد الشاي رصاصي اللون على الأرض بعدما كنسها براحة يده ووجد لسلطانيتي الزيت والسمن موطئا، وبسط أرغفة الخبز على قطعة قماش فوق صخرة ممتدة إلى جانبه، ونادى على الحصادين فلحقوا به وكل واحد منهم يحمل صخرة متوسطة الحجم ليجلس عليها. ومضى موح يحثهم على الأكل ويرحب بهم:
ـ تفضلوا أيها الأحباب، وسامحونا فليس لدينا اليوم مرق، تعرفون أنها نهاية الأسبوع ولم تعد في البيت خضر، ولا سبيل للحم إلا يوم السوق الأسبوعي، وفوق ذلك أنتم تعرفون ما نعيشه من طوارئ هذه الأيام.
ـ الحمد لله، هذا خير كثير وعميم، نسأل الله تعالى أن يُخلف لكم ويأجركم، يرد عليه الحسن ونْبارْكْ (نطق أهل المنطقة لاسم مبارك) بصوت واحد وبعبارات مسكوكة ومألوفة في مثل هذه المواقف.
أما الحسين ففضل أن يجيبه بمثل أمازيغي:
ـ “أَمَا إِيشَّا أُودِيسْ أُورْ إِرْبِيحْ” يا موح، هات الشاي هات يا رجل، فما يزال أمامنا الكثير من العمل وقد اقترب وقت العصر.
وهذا المثل الأمازيغي معناه أن المعدة تبقى معدة ولن يتغير شكلها مهما أكلت، ومن ثم فليس الأكل غاية في حد ذاته، وسبب ذكر وقت العصر في جواب الحسين هو أن العادة جرت هنا على أن يتم تحديد فترات العمل بأوقات الصلاة، أو بموضع الشمس في السماء، فالحصاد وغيره من الأعمال تُحدَّد قيمة الأجر فيها بالعمل إلى وقت صلاة الظهر، أو إلى وقت صلاة العصر، وغالبا ما يبدأ بمجرد أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ولكل توقيت مقابل، وأحيانا يكون فقط تناوبيا، أي أن تعمل عند أحدهم اليوم مقابل أن يعمل عندك يوما آخر وبنفس التوقيت، وربما كان العمل في الفترة الصباحية فقط قبل أن يشتد حر الشمس فيسمونه “تَصْبْحيتْ”، أو في المساء عندما يبرد لهيبها فيسمون ذلك العمل “تَعْشْويتْ”.
هي بساطة الحياة وسلاستها في هذه القرى، كل أهلها مثل أسرة واحدة، ولا حاجة للمال والأجرة بينهم في كثير من الأحيان، بل من المألوف أن تسمع أحدهم يقول إنه يَدين لفلان أو فلان بيوم أو يومين أو أيام عمل، أو بـ”عشوية” أو”عشويتين” أو “صبحية” أو “صبحيتين” أو أقل من ذلك أو أكثر، وفي أحيان أخرى قد تكون الأجرة زيتا وسكرا وشعيرا، ويمكن لمن هو في سعة من أمره أن يعمل عند غيره بدون مقابل، ويصطلحون على ذلك بالعمل في سبيل الله.
تسابقت الأيدي الخشنة للحصادين نحو الزيت والسمن في تناغم عجيب، وانطلقت ألسنتهم بالمزاح والمرح، ثم بدأوا يتبادلون بعض ما لديهم من أخبار القرية أو القرى المجاورة، أخبار التحضيرات لزفاف هنا، وآخر أنباء خلاف عائلي هناك، ومصيبة ذئب هاجم قطيعا في القرية كذا، وكارثة فيضان نهر أودى بحياة ناس وأغرق مواشيهم ومحاصيلهم في المنطقة كذا، وهكذا لو كانت في هذه الجبال جريدة أو قناة أو إذاعة لكانت تلك أبرز الأخبار التي ستملأ بها صفحتها الأولى أو نشراتها الرئيسية.
أنهوا أكلهم بنهم شديد بعدما نال منهم الجوع، ورووا عطشهم بماء بارد زلال ترك في حلوقهم وأنوفهم نكهة القطران، ودعوا بالخير والبركات لمن أطعمهم، وقام كل منهم إلى منجله وقصباته وأعادوا قبعات الدوم على رؤوسهم وقصدوا ما بقي من السنابل منتصبا في الحقل ينتظر دوره ليسلم ساقه لأسنان المناجل الحادة.
ونادى موح كلثوم لتعيد الأواني إلى البيت، لكنه أشفق عليها لما رأى حزمة الحطب الضخمة التي جمعتها وأحكمت ربطها بينما كان هو وزملاؤه يتناولون الغذاء، فقرر أن يبقي الأواني حتى يحضرها معه إلى البيت بعد العصر، وقفلت هي راجعة وهي تحمل حزمة الحطب وتبدو تحتها مثل نملة صغيرة تحمل كومة من القش تضاعف وزنها عدة مرات.
لا يسمح بنشر التعليقات المسيئة أو التي تحمل كلمات نابية أو التي تمس بالدين والوطن والحرمات ..