
كان من الصدفة، أن يحل رئيس الحكومة الإسبانية في زيارة رسمية إلى بلدنا يوم أمس، في ذكرى دخول إسبانيا إلى منطقة آيت باعمران وتوقيع اتفاق الحماية، المعروف باتفاق امزدوغ، مع إمغارن ن آيت باعمران وبناء مدينة سيدي إفني يوم 6 أبريل 1934. وهي الحماية التي انتهت بخروج إسبانيا وعودة منطقة إفني إلى حضيرة الوطن، باتفاق فاس في يوم 30 يونيو 1969. وكان من بين شروط هذا الاتفاق الذي وقعه وزير الخارجية المغربي آنذاك ونظيره الاسباني لتسليم إقليم إفني، تدريس اللغة الإسبانية لجميع أبناء آيت باعمران.
لكن للأسف ما أن رحلت أسبانيا ومعها مؤسساتها التعليمية والثقافية والاذاعية، حتى قامت الدولة المغربية بقلب صفحة اتفاقها وعهدها مع جارتها أسبانيا، وطبقت سياسة تعليمية موحدة معتمدة على العربنة والفرنسة، فلا هي احترمت لغة البلاد والعباد أي الأمازيغية ولا هي استمرت في تلقين وتدريس الإسبانية لأبناء المنطقة كما هو معهود لعدة سنوات. فبدأت في التعريب والفرنسة من جديد، وخلقت فجوات لغوية وثقافية لدى الناشئة وحتى داخل المجتمع الصغير بآيت باعمران. فالجيل الذي عاش إبان فترة التواجد الاسباني سواء المتعلم أو غير المتعلم، كان يتحدث الإسبانية بطلاقة، لكن الجيل الناشئ وما بعده أصبح يتعلم لغات أجنبية أخرى الفرنسية والإنجليزية داخل المدرسة. وتسبب ذلك في مشاكل كثيرة لدى الأجيال اللاحقة، بالرغم من وجود رغبة كبيرة في تعلم الإسبانية إلا أن المدرسة لا تسمح لذلك، حتى في المرحلة الثانوية غير متوفرة، وربما إلى الآن، فإلى حدود التسعينات كان على من يختار اللغة الإسبانية كلغة ثانية أو كتخصص عليه الانتقال إلى مدينة أگادير.
بالرغم من العلاقات الكثيرة الوطيدة بين منطقة افني وايت باعمران مع أسبانيا وبحكم القرب الجغرافي مع الجزر الكناري، إلا أن الدولة فكرت بشكل خاطئ في اقتلاع تلك الروابط من خلال إلغاء تدريس اللغة الإسبانية لأبناء آيت باعمران، وارغامهم تلقين الفرنسية بشكل إجباري بدون أية رؤية بيداغوجية ولا تربوية، فقط لتنفيذ أجندة فرنسا الفرنكوفونية في بلدان ما وراء البحار.وعلى نفس المنوال، عانت كل مناطق المغرب من هذه السياسة اللغوية الاحادية التي تفرض خيار اللغة الفرنسية على التلاميذ عوض الخيارات والاختيارات الممكنة، كاللغة الإسبانية والإنجليزية… وكان من المنطقي أن تكون اللغة الإسبانية ضمن اللغات الفضلى، وذات الأولوية لدى المغاربة بحكم القرب الجغرافي والترابط التاريخي والحضاري المشترك بين البلدين.
كما أن قوة انتشار اللغة الإسبانية في العالم وعدد مستعمليها يفوق بكثير الذين يستعملون اللغة الفرنسية في العالم، مما يجعل هذه الأخيرة تفقد مقومات المنافسة مع الانجليزية والصينية والاسبانية…يجب أن نتحلى بالجرأة لقول الحقيقة أن خيار فرنسة الدولة والمجتمع في المغرب كان خيارا خاطئا، وخسر فيه المغرب خسائر كثيرة ثقافيا واقتصاديا وسياسيا.. فعدد المغاربة الذين يتحدثون ويفهمون الإسبانية قليل جدا، وهذه كارثة حين لا تتحدث وتتعلم الشعوب المجاورة اللغات التي يتحدثون بها.
فإذا كان من الضروري تعلم اللغات الأجنبية، فعلى الاقل أن نتعلم لغة دولة وشعب مجاور لنا، لا تفصله عنا إلا 14 كلمتر، أو نقول اننا نتشارك معه حدود برية في سبتة ومليلية.لا تصدر عندنا جرائد أو مجلات ناطقة باللغة الاسبانية، وقنواتنا التلفزية وعددها 10 لا تبث برامج واخبار باللغة الإسبانية، إلا قناة وحيدة تبث نشرة باللغة الإسبانية في منتصف النهار مدتها لا تتجاوز 15 دقيقة. ونفس الشيئ في الاذاعات الخاصة، فقط العربية والفرنسية هما المهيمنتان في لغة الإعلام ببلادنا. المدارس والثانويات تنعدم فيها الإسبانية، وفي الجامعات توجد شعبة اللغة الإسبانية لكنها تبقى مثل الجزر المنفية التي لا تستقطب إلا عددا قليلا جدا من الطلبة.
إذن كيف سنفهم بلدنا الجار؟
وكيف سنتحدث معه ونخاطبه؟
وكيف سنتابع أخباره وتفاصيله؟
وكيف سنبني معه جسور التواصل والعلاقات في المستقبل؟
ثم كيف سنناقش معه لكي نقنعه بجدية مقترحاتنا وعدالة قضيتنا؟
سياق عودة العلاقات الجيدة مع جارتنا الشمالية والغربية بحكم تواجدها في الجزر الكناري، هو فرصة ثمينة للخروج من حالة الانكماش الثقافي الذي نعيشه تجاه اللغة والثقافة الإسبانيتين.. ونكسر حاجز التوجس والشك من تدريس اللغة الإسبانية وجعلها لغة حية في المدارس المغربية، وأن لا يقتصر تداولها في مناطق معينة فحسب، مثل الريف والصحراء، فتواجدها في هذه المناطق وحدها يطرح مشاكل كثيرة في المستقبل.
فرغم أن الدولة حاربت اللغة الإسبانية في افني، إلا أن الشباب يقبل على تعلمها خارج المدرسة، ويعتمد على إمكانيات ذاتية لتلقينها، ويتهرب من اللغة الفرنسية لأسباب لها علاقة بالذاكرة، وايضا بالمستقبل لأن الشباب يطمح للهجرة إلى أسبانيا، فقبل أن يفكر الشباب في الهروب من الوطن فإنه يهرب من المدرسة أولا.
لنأخذ كلام نطق به وزير الخارجية الاسباني في ندوة صحفية بمدينة برشلونة في نهاية مارس الماضي، قال:” إن الصادرات الإسبانية نحو المغرب ارتفعت بنسبة 29 بالمائة في 2020/2021، و17 ألف شركة إسبانية لديها علاقات تجارية مع المغرب، و700 شركة تستقر في البلد الجار، كما يعيش أزيد من 800 ألف مغربي في إسبانيا.”
ألى تستحق هذه الأرقام أن يحصل انفتاح ثقافي بين البلدين، وأن نغير مواقفنا الجاهزة عن اللغة الإسبانية وندرسها لأبناء المغاربة بمنطق المساواة مع اللغة الفرنسية والإنجليزية… فتدريس اللغة هو مفتاح التعاون الثقافي والعلاقات الاقتصادية والسياسية، حين نتعلم اللغة سننفتح عن السينما والآداب والتاريخ ثم الاقتصاد والتجارة…. فعوض أن نكتفي فقط بالتفرج ومشاهدة مباراة كرة القدم للفرق الإسبانية بتعليق قادم من قطر، الأحرى بنا أن نستمتع أيضا بالآداب الاسباني والسينما الإسبانية ونستفيد من المعارف والعلوم والخبرات الإسبانية….
لا يسمح بنشر التعليقات المسيئة أو التي تحمل كلمات نابية أو التي تمس بالدين والوطن والحرمات ..